إذاً: الأمثلة أكثر من مائة موضع فيما يتعلق بالصفات، أما غير ذلك فهي كثيرة جداً، فـ ما اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من كلامهم لا يصح وقد خرقوا بذلك إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة، وإجماع التابعين، وإجماع أئمة الإسلام، ووافقوا المعتزلة و الجهمية و الرافضة و الخوارج.
فقول ابن القيم: (هؤلاء الذين خرقوا الإجماع ووافقوا به المعتزلة يدل على أنه لا يتكلم عن المعتزلة و الجهمية و الرافضة و الخوارج بل عن الأشعرية، وإمامهم في ذلك هو الرازي الذي هو أصل هذا.
إذاً هؤلاء خرقوا الإجماع وخالفوه، هل يصح بعد ذلك أن يقول أحد: إن هؤلاء الذين خرقوا الإجماع في هذا الأمر العظيم يعدون من أهل السنة والجماعة ؟ كيف يكونون منهم وهم يخالفونهم في أصل عظيم تنبني عليه كل الأمور؟ لأن كل الصفات إنما تبنى على هذا إلا ما قل كالذي ثبت في القرآن ثبوتاً قطعي الدلالة، وإلا فإن بعض ما في القرآن ربما يحتمل أيضاً فتأتي السنة فتزيل هذا الاحتمال.
إذاً: فالذين ردوا خبر الآحاد وقرروا ذلك من الأشعرية سواء كانوا تكلموا في كتب أهل الكلام أو كتب الأصول أو ما أشبه ذلك هم أبعد الناس عن أن يكونوا من أهل السنة والجماعة ؛ لموافقتهم لمن لا شك بأنه خارج عن أهل السنة والجماعة وهم المعتزلة و الجهمية و الرافضة و الخوارج .
يقول ابن القيم رحمه الله في عبارته العلمية: (وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء) ففرق رحمه الله بين الأساس وبين التابعين.
فتجد من الفقهاء أو الأصوليين وهو من أهل السنة لكنه لما كتب في الأصول اعتمد على كلام الغزالي في المنخول أو في المستصفى مثلاً وقرر أن خبر الواحد لا يفيد العلم، مع أنه أصلاً من أهل السنة ، ويعمل بالأحاديث، وهو فقيه أيضاً، وذلك كـالغزالي نفسه وهو فقيه من فقهاء الشافعية، والإحياء فيه آلاف من الأحاديث والآثار وكلها آحاد، يعني أن منهم من يعيش بعقلية مزودة يجمع نقيضين؛ لأنه في المواضع الكلامية يكون من المتكلمين، فإذا جاء في جانب الفقه فإذا به فقيه، ولو كان قاضياً لحكم بهذه الأمور كما يحكم سائر قضاة المسلمين من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، فالشاهد أنه فرق رحمه الله بين من كانوا رأساً وأصلاً في ذلك وبين من كانوا أتباعاً، وهذا يقع فقط من الأصوليين والفقهاء بل يقع ذلك من بعض شراح السنة كالإمام النووي رحمه الله، فهو على فضله وعلو درجته في الحديث والعبادة والزهد وقع في أشياء من هذا؛ لأنه ينقل عن القاضي عياض مثلاً وعن أبي بكر بن الباقلاني وأمثاله، ثم يأتي ابن حجر رحمه الله تعالى فيتابعهم أيضاً في مواضع وينقل عن هؤلاء، وتارةً يقرهم، وتارة يتعقبه، وتارةً ينقل من غير أن يتعقب على ذلك بإيجاب أو بنفي.
إذاً: أهل الكلام الذين قعدوا هذه القواعد وقرروا هذه الأصول ليسوا من أهل السنة والجماعة ، وقد يتبعهم ويوافقهم من هو من أهل السنة فينخدع بهم ويغرر بهم ويقرهم على أمر هو في حقيقته لا يرضاه، وإذا رأيت كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح كتاب (الاعتصام بالكتاب والسنة) أو كتاب (العلم) من فتح الباري شرح صحيح البخاري لرأيت له كلاماً لا يمكن أن يكون موافقاً لكلام هؤلاء، بل إذا قرأت ترجمة الفخر الرازي في لسان الميزان للحافظ ابن حجر رحمه الله لوجدت أنه لم يقل: هذا إمامنا ونحن من أتباعه رضي الله عنه وأرضاه، بل ذكر أنه روي عنه عقائد شنيعة، وأنه أوصى وصية في آخر حياته حسن فيها اعتقاده، فعلى أي عقيدة ابن حجر رحمه الله على ما في الوصية أو على ما في الكتب؟ لا شك أنه سيكون على ما في الوصية.
وبهذا نعلم أنه قد يأتي الرجل أو العالم من أهل السنة والجماعة ويوافق بعض المتكلمين أو المبتدعة في أمر كما أن بعض المبتدعة قد يوافق الحق والسنة في أمر أو أمور، فمن العدل أن يذكر هذا، وأن يذكر هذا ولكن لا نجعل هؤلاء المبتدعة من أهل السنة والجماعة فنلبس الأمر على أهل السنة أو على الأمة، وكذلك لا نجور ولا نحيف، بل نكون شهداء لله قوامين بالقسط كما أمر الله عز وجل، فهؤلاء ومن اتبعهم لا يعرف لهم سلف من الأئمة، وسلفهم وأئمتهم هم أهل الضلال، وأول من تكلم في التواتر والآحاد والقطع والظن هم المعتزلة كما بينا فيما مضى.